Daily Archives: 13/04/2024

جدلية الخلق بين علماء الشرق والغرب (فلاسفة وفيزيائيين) ج -1

الدكتور رشاد الخريم
بمنظور علمي جديد وتحت ضوء معطيات العلوم الحديثة، مع محورية السؤال الذي أرق فلاسفة وعلماء الغرب وسيظل: لماذا خلق الكون وتواجد بدل ألا يوجد؟ هذا معظم تساؤلهم، وكان الأولى: ان يتساءلوا : لماذا خلق الكون وما الحكمة في خلقه؟ ومن الذي خلقه؟ وقد جاء هذا المقال بالمناسبة ردا على الفيلسوف والفيزيائي جون فرانسوا بيكارت الذي يحاول متسائلا: هل بإمكان فلسفة الكوسمولوجيا أن تجيب: لماذا خلق الكون؟

Jean-François Becquaert : “La philosophie de la cosmologie tente d’expliquer le ‘pourquoi’ de l’Univers”
Intervenant à l’Institut supérieur de l’aéronautique et de l’espace (Supaéro), docteur en astrophysique et auteur, Jean-François Becquaert enseigne la philosophie de la cosmologie. Longtemps cantonnée aux laboratoires de recherche, cette discipline, qui s’attache à donner du sens aux théories sur les origines et la nature de l’Univers, est en pleine expansion outre-Atlantique.
الجزء الاول.

من المعلوم أن تطور العلوم أدى إلى تطور الفلسفة أم العلوم ذاتها ، فلم تعد أدوات الفلسفة كما كانت قديما، وإنما عدلت تعديلا، حتى عادت تتدخل في كل العلوم بعد ان كانت قد فصلت عنها خلال عقود من الزمن، وذاك حين تلبست بلباس العلم الحديث ولم يعد الأورغانون ه‍و آلتها الوحيدة التي تعتمد عليه، بل أدخلت عليها ادوات جديدة، استخرجتها، او استنتجتها، عقول جبارة جديدة بعد ان استصحبت واستدركت أهم أدوات وقواعد العلم الحديث من علوم الرياضيات وعلوم الفلك والفيزياء الحديثة، فحين يطرح السؤال مثلا كيف وقع خلق الكون او كيف تطور الخلق؟

وحين تبحث في ماهية الاشياء باعتماد قواعد السببية، المستصحبة لقواعد ومبادئ العلوم الحديثة،خصوصا منها قوانين النسبية العلمية القائمة على مبدإ الحتمية، فإنك تصبح حتما أمام قوانين مجعولة ومؤسسة معتمدة في كيفية خلق الكون ثم تطوره وصيرورته، وحفظ تماسكه، بل والقيومية عليه والعناية به، ونحن نجد في هذه التجليات الحديثة مطابقة ومصداقية قوله تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق/العنكبوت20، فهم طبعا من نظروا، وهم طبعا من وصلوا الى أقصى تجليات هذه الآية،

إذ من أهم تجلياتها ان الكون اصبح له بداية، إذ كان اغلبهم يقول بأزلية العالم، وأيضا أن كل شيء له نهاية بما فيها النجوم والمجرات والكون نفسه، توصلوا كذلك إلى قضية توسع الكون، وكان أقصى تجليات هذه الآية هي قضية الرتق، إلا انهم ألبسوه شيئا وهميا لم يثبت علميا ربما لحاجة في نفس يعقوب، ربما ليغطوا بها حقيقة كونية دينية، سواء عن قصد أو عن غير قصد، وهي مسألة الفرقعة الكبرى، إذ لا دليل عليها البتة، لكن الرتق له دليل علمي وله دليل ديني قرآني، وذلك في قوله تعالى: أولم ير الذين كفروا ان السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون/الأنبياء30، هم طبعا وصلوا إلى معرفة بداية الخلق، لكن لماذا لم يؤمنوا،

أعني تقريبا جل المختصين، لماذا ؟ أربما لكونهم لم يطلعوا على محتويات الكتاب المسطور، ولقد وصل الفيزيائي والقسيس البلجيكي جورج لومتر في العشرينات من القرن الماضي، الى هذه الاشارة القرآنية، ليس بقراءة القرآن، لكن باعتماد مفاهيم النسبية العامة التي أشارت إلى توسع الكون، في قواعدها الرياضية مع تأكد هذا المفهوم حين رصد الفلكي الامريكي إدوين هابل هذا التوسع بهروب المجرات من بعضها البعض، وقد توصل جورج لومتر إلى نتيجة حتمية هي أن الكون كان في البدء صغيرا جدا، ثم بدأ يتوسع، فقال إن الكون كان عبارة عن ذرة، في أول خلقه، ويأتي بعده الفيزيائي الروسي جورج كاموف،ليواصل الكشف انطلاقا من مفاهيم رياضية و فيزيائية كيميائية ليصل أخيرا إلى مفهوم الخلفية الاشعاعية الكونية للمادة الرتقية الأولية للكون، والذي كان عبارة عن بويضة سحابية ذرية ثم يأتي بعدهما فريد هويل،سنة 1949 في لقاء تلفزيوني منكرا وفي نفس الوقت مستهزءا ليضفي على مفهوم الكون الذري الأصل مفهوما مزيفا غير منطقي ولا حقيقي، و هو الانفجار العظيم، لما رآه من انفجار مهول وعظيم للقنبلة الذرية سنة 1948، وهي أول قنبلة ذرية تفجر في تاريخ البشرية، وفريد هويل كان ملحدا وكان من كبار منكري بداية او تخلق الكون، وكان يؤيد بشدة مفهوم الكون الأزلي، وإنما بطريقته الماكرة قال ما قال ليلبس به على الناس مفهوم الرتق الأولي المنكمش المقزم، والذي أصبح معروفا حاليا عند علماء الفيزياء الحديثة بالمتفردة او الفرادة، وبعد نظر الجميع في مدى أبعاد هذا التأصيل تشبتوا أكثر بمفهوم المتفردة، وبمفهوم الخلفية الكونية التذبذبية او الموجية الاشعاعية، ثم تكتشف وسائل العلم الحديث الدقيقة أن كل هذا لم يكن ليكون لولا حسابات شديدة الضبط والدقة، لا يدرك قدرها و سموها وسحرها ومفعولها الا عباقرة الانس والجن، فلا عجب ان ينكشف هذا الامر، مع بداية القرن العشرين،وما كان ليكتشف الا بتواجد كوكبة من العباقرة لم يعرف لها الزمن مثيلا من قبل، فهل يا ترى وجدوا سدى؟ ومع كل هذا، يبقى السؤال المحوري والذي يتهرب منه جل هؤلاء العباقرة، بل ويشمئزون من ذكره، هو من الذي أسس كل هذه القوانين والثوابت بل وعدل كل هذه الحسابات الدقيقة العجيبة والغريبة والتي لم يعرف لها التاريخ شبيها ولا مثيلا، إذ الجواب البديهي هو: عدلها من ليس له شبيه ولا مثيل(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير/الشورى11)

إذ دلت عليه تلك التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا ولا شبيها- بل الأكثر من هذا هو من الذي جعل هذه القواعد تتفاعل لتتشكل كل هذه الابعاد والصور وكل هذه الاجرام والاجسام؟ وهذا شيء أعجب وأغرب، فلا يجيب أحد على هذه المسألة إلا الحق عز وجل إذ يقول بصيغة النفي الجازمة: وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات و لا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات/فاطر21, بل يقول هو سبحانه مستغربا لأفهام البشر مرددا ومكررا المعنى نفسه لكن بصيغة استفهامية إستنكارية محضة: قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه الخلق عليهم/الرعد 16؛ فقانون الحتمية السببية، بلباسه وثوبه الجديد هو بنفسه يشهد ان وراء كل هذا الوجود موجد، مبدع خلاق قوي قدير مريد مدبر قيوم حكيم عليم خبير، أوجب تواجد هذا الوجود( بديع السموات والأرض/البقرة117)

إذ كل هذه الاوصاف او الصفات الالهية هي موجودة بل معدلة بالضرورة الواجبة اللازمة المتحتمة في تشكلات وجسد هذا الكون الفسيح، إذ لا مجال البتة لقانون المضاربات والفوضوية والعشوائية، وهذا ما تقيأه جوف هذا الكتاب المنظور مع كامل الاوصاف، وهم يتساءلون وما زالوا: من الذي كتب كل هذه القوانين والثوابت وكل هذه الحسابات الدقيقة؟ ولماذا هي هكذا متقنة ومقدرة محسوبة بحساب جد دقيق، بل بالغ الدقة الى درجة جد معقدة ومحيرة مدهشة شبه مستحيلة بل هي مستحيلة بالنسبة لعقول البشر، لكن الجواب عن السؤال، عن من الذي كتب؟ ومن الذي فعل؟ ولماذا؟ هو ليس من اختصاصات أو أولويات الكتاب المنظور، إذ أولوياته ليست بالمباشرة الصريحة، إذ هي اللوحة المرسومة، لا ترى فيها الريشة ولا اليد، لكنك ترى الرسم، بل هي من أولويات الكتاب المسطور ذي الدلالة الوضيحة والفصيحة، إذ فيه تتجلى عينية ونوعية قوله الوضيح الفصيح المباشر الصريح في خطاب الخاص الذي أريد به العام :يا موسى إنه انا الله العزيز الحكيم/النمل9, وكذلك في سورة طه قوله لسيدنا موسى عليه السلام، ومن خلاله للناس كافة: إنني انا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري/الاية14

فبالكتاب المسطور عرفنا من خلق بل عرفنا آياته وحججه ودلالاته، وعرفنا صفاته وأسماءه وعجيب قدرته وقوته وسطوته، وهؤلاء ليسوا كالمشركين القدامى حين تسألهم من خلق السموات والارض، هؤلاء ليسوا مشركين بل ملحدين، تلبسوا نوعا جديدا من الكفر والشرك والإلحاد، نراه قد طغى وتفشى هذا الزمان، فلئن سألتهم من خلق السموات والارض لا يقولوا : خلقهن الله، يقولون كل شيء الا الله، فقد ترددت وتنوعت مترادفات اسم الباطل، بكل أصنافه عندهم: الطبيعة، الصدفة، قوانين الجاذبية….بل قل ما شئت الا اسم الله، لا يتحملونه ، قال تعالى: ذلكم أنه اذا دعي الله وحده كفرتم وان يشرك به تؤمنوا/غافر12, كما قال عز وجل: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرة واذا ذكر الذين من دونه اذا هم يستبشرون/الزمر45، لهذا هم في ريبهم يترددون وفي غيهم يتخبطون، وعن الحق هم زائغون ومنصرفون…بل هم يكرهون الحق وينفرون منه، خصوصا اذا اقترن معه اسم الله، حيث يتنبأ القران بكل خبايا نفوسهم، يقول تعالى: واذا ذكرت ربك في القران وحده ولووا على أدبارهم نفورا/الإسراء46) كما قال بصراحة واضحة وفاضحة: لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون/الزخرف78

فهل يكون هذا هو اللغز الكبير أو السر العميق الذي لم يتفطن له أحد كبار عباقرة التاريخ ألبرت اينشتاين ولا كل عباقرة قرن مميز، تفاعلت وتجسدت فيه كل العلوم، بشكل لم يشهد له التاريخ مثيلا من قبل، خصوصا في النصف الأول من القرن العشرين، ترى لماذا القرن العشرين بالضبط؟ وما دلالته؟ مع حدوث حربين عالميتين كبيرتين هما أكبر الحروب قتلا وهمجية وتخريبا في تاريخ البشريه، بل ما موقع أحداثه من كل الاحداث التاريخية؟ لكن الخوض في مثل هذه الأمور الوجودية الحديثة قد يكون من وجهة نظري هو جوهر دقيق علم الكلام، ومحوره الرئيسي، خصوصا في الزمن الحديث، حيث تقدمت العلوم والتكنولوجيا بشكل كبير، فالنظر في الموجودات والتفكر والبحث فيها هو دليل وجوبي على الواجد الموجد، قطعا بضرورة عقلية منطقية، إذ لا موجود من دون موجد ودليله واضح كدليل الشمس على النور، بل دليله ايضا على الظل، قال تعالى: ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا،ثم جعلنا الشمس عليه دليلا/الفرقان45

إذ بالنظر في الموجودات، باستقصاءها وتفحصها واستجلاءها تتكشف خصائص بصمة البارئ الموجد، ففيها مقتضى أسماءه وصفاته، تراها مجسدة مشكلة، إذ ليس المهم عددية الصفات المختلف فيها عند بعض الطوائف الدينية المسلمة أو قضية تجسيم الذات الإلهية وماهيتها، بل القضية هي قضية خلق وأمر، هذا مراد الله البديهي، فلولا الأمر ما كان شيء وما كان خلق، ويبقى طنين كلمة رائد علم التوحيد العبقري الفذ العلامة عبد الواحد ابن عاشر في أذن كل الأرصاد الكونية، سيبقى طنينها مدويا في ذلك المتن الفريد المتميز إذ سبق الكل به في تأصيل مبدأ السببية و قواعد الحتمية، لينفي به كل التخرصات الباطلة الوهمية، بل نجده قد أصل ملخص ومجمل علم التوحيد فيه، إذ يقول : وجود الله له دليل قاطع حاجة كل محدث للصانع. إن وجدت لنفسها الأكوان اجتمع التساوي والرجحان وذا محال… والتي بظني انه استنتجها من أدوات آلة الأورغانون و دلالات السبر والتقسيم المتواجدة في الكتاب المسطور والتي من إحداها هي قوله تعالى: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والارض/الطور35

ومن عجب العجاب ان التضارب القائم اليوم في فلسفة العلوم الحديثة وخصوصا ذلك التناقض الوارد بين معطيات فيزياء النسبية ومعطيات فيزياء الكم، والذي جنن وحير كل عباقرة القرن العشرين ولا زال الى يومنا هذا، نجده قد لخصه لنا علامة الغرب الإسلامي في زمانه، في هذا المتن المتميز ذي الدلالات العميقة، وقد حاولت بسطها وشرحها، في كتاب الانفجار العظيم بين الشك واليقين والنفي والاثبات، في مرحلة تخلق الاضداد من المادة والمادة المضادة، وعند تفصيلي للمراحل العشرة لسفر تكوين الخلق وخصوصا ما يتعلق منها بمذبحة الكواركات، وهذه الدلالات لم يتفطن إليها علماءنا وخصوصا منهم من تمنطق بعلم الكلام وركب بحوره، وصال وجال،في دروب وأحواض الفلسفة والتأويل، إذ أن تأويله القاطع جاء متأخرا مع بزوغ نور هذه العلوم الحديثة، شهد به رواد هذه العلوم من حيث لم يشعروا كاستيفن هاوكينس في كتابيه موجز تاريخ الزمن والتصميم الكبير، وكاستيفن وينبيرغ في كتابه الدقائق الثلاث لخلق الكون، ودافيد بولس في كتابيه (عقل الله، و الله والفيزياء الحديثة), وهم كلهم طبعا فلاسفة وهم من رواد علوم الفيزياء الفلكية الحديثة، وغيرهم ممن تجدهم يتطرقون لمثل هذه الأسئلة، يتخرصون غالبا، يتكلمون احيانا عن الله وكأنهم مجبرين زاعمين الحياذ في أطروحاتهم، لكن لا يخلصون الى الحزم والجزم، بل يتذبذبون تارة بين هؤلاء و أولئك ..وكأن العلم لا علاقة له بالإيمان من وجهة نظرهم، على كل حال ستبقى هذه الإشكالية من وجهة نظرهم مطروحة الى حين التوصل الى نظرية الكل، وتكون غالب إجاباتهم: لا زلنا نبحث فهل سيتوصلون اليها؟ وفرضا أنهم توصلوا اليها، هل سيؤمنون؟

فنظرية الكل لا علاقة لها بالخالق، إذ التساؤلات والاجابات لن تنقضي، ولن تشفي غليلا أو تداوي عليلا، ما دام الله غيبا، لا يرى ولا يرصد، قال تعالى : لا تدركه الابصار وهو يدرك الأبصار/الاية، وقوله عز وجل لسيدنا موسى لن تراني، هي قضية قطعية فلن يراه احد من البشر ، وقد سألت سيدتنا عائشة حين عاد من المعراج : هل رأيت ربك، فأجاب(ص): نور أنى أراه، فهو عز وجل نور وحجابه نور، ونحن لا تحتمل النظر الى الشمس دقيقة واحدة، فكيف سيحتمل بصرنا الضعيف- في هذه الدنيا-النظر الى خالق الشمس وخالق الكون كله…..